الأربعاء، 22 فبراير 2012

أحمد راشد ثاني

أحمد راشد ثاني
 آخر تحديث:الأربعاء ,22/02/2012

حبيب الصايغ

لا بمناسبة موته، لكن بمناسبة حياته يتحدث أحمد راشد ثاني في الذاكرة كالذاكرة، ناحتاً وكأنه الأبد، مكانه ومكانته . هذا الشاعر تأكيد مستمر لطفولة الشعر، ولنضوج فكرة الشعر، وهو الآن، الآن خصوصاً، يفرض وجوده الخاص وإلحاحه الخاص، ويرتسم طفلاً أو يكاد . شاباً أو يكاد . تعرفت إليه للمرة الأولى نهاية السبعينات، وزمن الإمارات مقبل، والوعد يشير إلى جهة الوعد، كان شاباً في السابعة عشرة على أبعد تقدير، لكن ملامحه ملامح طفل .
هذه الطفولة العارمة لم تفارقه حتى ظهر يوم الإثنين الموافق 20 فبراير/ شباط ،2012 حيث أسكتت الفجأة قلبه الضعيف، الفجأة المستمرة إذا شئتم . وكان أحمد راشد ثاني مريضاً بالقلب، وبالشعر، وبحب إرثه وأهله ووطنه، لكنه لم يشأ أن يحول مرضه في المعنيين الخاص والعام، إلى احتفال أو ضجيج، كما درجت العادة أحياناً، أو كما تعودنا كثيراً؛ أحمد راشد قاوم المرض بفضيلة الصحة، وبفضيلة الحياة، لذلك كان لموته طعم الصدمة، وهو طعم لاذع، مر، وغير مستساغ بسهولة . شخصياً - ومن حق الإنسان أن يعبر عن نفسه كما يريد- لا أستوعب موت أحمد راشد ثاني لا أستوعب أن يصدر اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، نافذته الأولى وبيته الأول، بياناً ينعى فيه، ببالغ الأسى، أحمد راشد ثاني . لا أستوعب أن يتصل بي زميلي وصديقي الدكتور سلمان كاصد، ليخبرني أنه عائد من جنازة أحمد راشد ثاني . لا أستوعب أن أصحو في اليوم التالي على صورته في الصفحات الثقافية، وعلى أخبار من سيرته، من المهد إلى اللحد .

الآن بالتحديد، ينبئ موت الشاعر بقيامة غيره من الشعراء . شخصياً بدأت أستعد، وكأنه أخذ يدي اليسرى معه، يدي التي أكتب بها .

الآن بالتحديد، يختصر موت الشاعر شلالات عذاباته وعذوباته، وفيما ينأى أو يدنو، يرفع في الطريق إلى بيته الأخير، راياته الممزقة وعليها طرف من دعاء الأمهات .
الآن بالتحديد، يقول الشاعر قصيدته التي لم تقل من قبل، التي لا تقال أبداً .
الآن بالتحديد، أستطيع أن ألتقي أحمد راشد ثاني على كيفي، أن أستحضره وكأنه بوصلة أو جهة، أن ألعب معه كما كنا في طفولة غابرة لم تحدث قط . أن أتبادل معه أقداح الحزن والحنين، أن يلعن تاريخي الشعري وألعن قصائده، خصوصاً تلك المكتوبة في مديح الجحيم .
ترى لماذا يجسد موت الشاعر الحقيقة أكثر من غيره، أعني أكثر من موت غيره، والموت هو الموت: صياد ماهر، وحبل من الحيل لا يخفي ابتسامته الماكرة، وهو يلتف على رقاب ضحاياه وقلوبهم؟
كأنما الموت تصديق سيرة يومية من الهذيان، كأنما هو تعب العمر وقد تجمع في الطريق العام أمام بيت الشاعر، أمام بيوته الكثيرة، الشاهقة والخفيضة أمام دكاكين طفولته ومقاهي صباه، أمام مرايا انتصاراته وانكساراته، أمام أراضيه وسماواته، أمام تنهداته وذروات شغفه، أمام فانتازيا انتظاره منذ بطن الأم إلى ازدحام طوابير الحياة، أمام موته اليومي، كل يوم، منذ التمرين الأول على الكلام إلى معاقرة الوهم، أمام أقداره الصامتة أبداً، وكأنها تتناسى، متعمدة، أدوارها المعلنة، أمام اصطفاف انشغالات صغيرة وبقيت صغيرة، أمام ثرياته ونشواته، أمام فوضاه وهي تحاول طمأنته بأن شتاء الألم لن يستطيع في الأخير، التقدم إلى بؤبؤ عينه، ولو خطوة . أمام استعاراته ومحطات ندمه، أمام نكاته المالحة ومواقفه اللاسعة، كأنه منذور لرواية الموت الناقصة والحياة الناقصة .
لن أستوعب موتك يا أحمد راشد ثاني فهذا شأني، حتى لو استوعبت أنت موتك، فهذا شأنك .
ولتكن أدوارنا في اللعبة واضحة، كما منذ عرفتك، وكما منذ لم أعرفك، وكما منذ لن أعرفك أبداً .
لم تتح لي يا صديقي فرصة لأتعرف إليك أكثر، وما إن توقف قلبك حتى استجبت ومت .
تمنيت لو ناديتني حتى أقف إلى جانبك، كنت سآتيك حتى لو أخذني حصان جامح إلى حكمة النسيان، كنت سآتيك مسرعاً حتى لو صدمتني سيارة في الطريق .







ليست هناك تعليقات: